فصل: وحاضِرٌ لِوَاهِبٍ مِنْ مَالِهِ *** وَلَمْ يُغَيِّرْ مَا رَأى مِن حَالِهِ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البهجة في شرح التحفة ***


وَالشَّرْحُ لِلثُنْيَا رُجُوعُ ملْكِ مَنْ *** بَاعَ إلَيْهِ عِنْدَ إحْضَارِ الثَّمَنْ

‏(‏والشرح للثنيا‏)‏ أي لحقيقتها وماهيتها هو ‏(‏رجوع ملك من باع إليه‏)‏ أي إلى البائع ‏(‏عند إحضار‏)‏ البائع ‏(‏الثمن‏)‏ ودفعه للمشتري كما تقدم في نص المدونة، وعليه الأكثر خلافاً لابن رشد حيث عممها في بياعات الشروط كما مرّ‏.‏ وفي كلام الناظم مخالفة للترتيب الطبيعي إذ هو يقتضي تقديم هذا البيت على قوله‏:‏ والبيع بالثنيا لفسخ داع الخ‏.‏ لأن التصور مقدم على الحكم طبعاً فينبغي تقديمه وضعاً كما قال في السلم‏:‏

إدراك مفرد تصوراً علم *** ودرك نسبة بتصديق وسم

وقدم الأول عند الوضع *** لأنه مقدم بالطبع

وتقديمه إنما هو على جهة الأولوية لا على جهة الوجوب، لأنه وارد في العربية، ولا يلزم عليه دور ولا غيره حتى يمنع فهو كقول ‏(‏خ‏)‏‏:‏ يرفع الحدث وحكم الخبث بالمطلق وهو ما صدق عليه اسم ماء بلا قيد وكقوله في الدماء‏:‏ واقتص من موضحة أوضحت عظم الرأس الخ‏.‏ وكقوله في الحديث‏:‏ ‏(‏لها كلاليب مثل شوك السعدان هل رأيتم شوك السعدان‏)‏‏:‏ فلو قالوا لا لأراهم إياها وصورها لهم، وإذا علمت هذا فالجواب عما ورد من ذلك بأنه من باب تقديم الحكم على التصوير لا على التصور، والممنوع إنما هو الثاني كما قالوه عند قول ‏(‏خ‏)‏‏:‏ يرفع الحدث‏.‏ الخ‏.‏ كله غير سديد، لأن ذلك إن كان بالنسبة للمخاطب كما هو المتبادر من كلامهم فالحكم واحد لما علمت من أن التصوير فعل الفاعل وهو أيضاً حد للصورة وشرحه إياها، والتصور حصول صورة الشيء في الذهن بسبب ذلك التصوير أو بغيره فيلزم من التصوير حصول الصورة، والمقدم على الأصل مقدم على الفرع، فيلزم من تقديمه على التصوير تقديمه على التصور، وإنما الجواب الحق أن يقال‏:‏ تقديم الحكم على التصور بالنسبة للمخاطب غير ممنوع لأن المخاطب قد يكون تصور الشيء من جهة أخرى، وإذا لم يتصوره صوره له المتكلم بعد إن شاء أو إن سأله المخاطب عنه كما فعل الناظم و‏(‏خ‏)‏ وإذا لم يسئل عنه لكونه مصوراً عنده لم يصوره له كما في الحديث، وليس هذا من باب إدخال الحكم في الحد حتى يكون ممنوعاً كما قال في السلم‏:‏

وعندهم من جملة المردود *** أن تدخل الأحكام في الحدود

لأن الناظم لم يدخل الحكم في الحد كما ترى، وإنما قدمه عليه والله أعلم‏.‏ وإن كان ذلك بالنسبة للمتكلم فمن أين لنا بأن الناظم ونحوه لم يتصوره بل تصوره عند الحكم بالفسخ ثم صوره للغير بعد ذلك، وعليه فلا حاجة لهذا الإيراد بالكلية إذ لا يحكم أحد على غيره بأنه لم يتصور كذا وهو لم يطلع على ما في ضميره حتى يحتاج للجواب عنه، وحينئذ فقولهم لأن الحكم على الشيء فرع تصوره هذا صحيح بالنسبة للمتكلم إذا اطلعنا على ما في ضميره وأنه حكم قبل أن يتصور حقيقة الشيء المحكوم عليه فيقال له حينئذ‏:‏ كان ينبغي لك أن لا تحكم على شيء حتى تتصوره، وأما بالنسبة للمخاطب فلا لأنه قد يحكم له على الشيء، ثم بعد ذلك يصور له ذلك الشيء إن لم يكن عرفه، وقد لا يصور له بالكلية لكونه قد عرفه من جهة أخرى أو يسأل عن حقيقته شخصاً آخر كقولهم‏:‏ صحت الإجارة، وكقولهم صح وقف مملوك ونحو ذلك مما هو كثير فقد حكموا بالصحة قبل أن يصوروا المحكوم عليه للمخاطب لكونه معروفاً عنده، أو لكونه يسأل عنه الغير‏.‏

وَجَازَ إنْ وَقَعَ بَعْدَ العَقْدِ *** طَوْعاً بِحْدَ وَبِغَيْرِ حَدِّ

‏(‏وجاز‏)‏ أي البيع بالثنيا ‏(‏إن وقع‏)‏ بين البائع والمشتري ‏(‏بعد‏)‏ انبرام ‏(‏العقد‏)‏ وتمامه ‏(‏طوعاً‏)‏ منهما ‏(‏بحد‏)‏ كقول المشتري للبائع‏:‏ إن جئتني بالثمن لسنة أو عشرين سنة مثلاً فالمبيع مردود عليك ‏(‏أو بغير حد‏)‏ كقوله‏:‏ متى جئتني بالثمن فالمبيع لك قال الفقيه راشد في جواب له نقله في المعيار‏:‏ وهذه الإقالة يعني التطوع بها بعد العقد قد أجازوها إلى غير غاية وإلى غير حد مؤجل، وأجازوها أيضاً إلى أجل قريب أو بعيد اه

ثم إنه في المطلقة متى أتاه بالثمن لزمه رد المبيع إليه، ويجوز للمشتري فيه التفويت بالبيع أو غيره، ويفوت به على البائع المقال إلا أن يفيته بالفور مما يرى أنه أراد قطع ما أوجبه على نفسه كما لابن رشد، ونقله ابن عرفة وغيره وهو قول ‏(‏خ‏)‏ لا إن قصد بالبيع الإفاتة‏.‏ قال ابن رشد القفصي‏:‏ فإن قام عليه حين أراد التفويت فعلى السلطان منعه من تفويته إذا أحضره البائع الثمن فإن باعه بعد أن منعه السلطان رد وإن باعه قبل القضاء عليه بذلك نفذ البيع اه‏.‏ وأما في المقيدة فلا يجوز له تفويته فإن فوته رد على ما للموثقين، وقيده الباجي بما إذا لم يبعد أجلها كالعشرين سنة فيكون حكمها حكم المبهمة في فواتها على البائع وعدم ردها، وإذا جاءه البائع بالثمن في خلال الأجل أو عند انقضائه أو بعده على القرب منه بيوم ونحوه لا أكثر لزمه قبوله ورد المبيع على بائعه، ولا كلام له في أنه لا يقبض الثمن إلا بعد الأجل كما صرح به المتيطي والقفصي في وثائقهما، وصرح به أيضاً العبدوسي في جواب له، وانظر إذا لم يأت بالثمن حتى انقضى الأجل بأيام فلم يقبل منه وأراد القيام بالغبن هل تعتبر السنة من يوم البيع أو يوم الانقضاء وهو الظاهر لأنه اليوم الذي تم فيه البيع والله أعلم‏.‏ ثم ما قررناه به من أن كلامه في الثنيا وهو ظاهر سياقه وبه يرتبط الكلام بعضه ببعض، ويحتمل على بعد أنه أشار إلى مسألة الخيار بعد البت المشار إليها بقول ‏(‏خ‏)‏‏:‏ وصح بيع بت الخ‏.‏ ويكون المعنى وجاز الخيار إن وقع بعد العقد بأجل وبغير أجل، لكن إن وقع بغير أجل لا بد أن يضربا له من الأجل ما يليق بذلك المبيع كما كر أول الفصل فقوله حينئذ‏:‏ وبغير حد أي وقع الخيار بعد العقد ولم يتعرضا لأجل، لكن يضرب له من الأجل ما يليق بالمبيع كما مر ففيها من اشترى سلعة من رجل ثم جعل أحدهما لصاحبه الخيار بعد تمام البيع، فذلك جائز وهو بيع مؤتنف بمنزلة بيع المشتري لها من غير البائع الخ‏.‏

تنبيهات‏:‏

الأول‏:‏ قال ابن عرفة‏:‏ لا أعلم مستنداً لأقوال الشيوخ بصحة الطوع بالثنيا بعد العقد لأن التزامها إن عد من جهة المبتاع عقداً بتاً فهو من جهة البائع خيار فيجب تأجيله لقولها‏:‏ من اشترى من رجل سلعة إلى آخر ما مرّ قريباً مع قولها من ابتاع سلعة بالخيار ولم يضربا أجلاً جاز وضرب له من الأجل ما ينبغي في مثل تلك السلعة اه‏.‏ ونقله ‏(‏ح‏)‏ في التزاماته وقال عقبه‏.‏ قلت‏:‏ الظاهر أنه ليس هنا عقد بيع، وإنما هو معروف أوجبه على نفسه والله أعلم اه‏.‏

قلت‏:‏ مستندهم في ذلك ظاهر، وهو أن المشتري إنما أوجب على نفسه البيع عند الإتيان بالثمن كما قاله أبو الفضل راشد في جواب له طويل‏.‏ ومحصله أنه لا يقع الإيجاب في الإقالة بنفس القول، وإنما يقع الإيجاب بعد المجيء بالثمن وأنه ليس في الحالة الراهنة إلا التزام وتعليق على وجه المعروف، وإنما يوجد البيع في ثاني حال حيث يوجد المعلق عليه‏.‏

الثاني‏:‏ الثمرة المؤبرة الحادثة في الثنيا المتطوع بها بعد العقد كما هو موضوعنا للمشتري المقيل عملاً بقول ‏(‏خ‏)‏‏:‏ ولا الشجر المؤبر الخ‏.‏ وأحرى إذا أزهت أو طابت، وقول ابن هلال في نوازله‏:‏ والثمرة للبائع المقال مطلقاً أبرت أم لا‏.‏ لأن المبتاع ألزم نفسه متبرعاً بأن البائع متى أتاه بالثمن فالمبيع مردود عليه، وقد فرقوا بين ما توجبه الأحكام وما يوجبه المرء على نفسه اه‏.‏ تعقبه بعض بأنه كلام غير صحيح لأن الإقالة بيع إلا في الطعام والشفعة والمرابحة ونحوها، فإذا جاء المقال بالثمن فحينئذ يقع البيع كما مر عن أبي الفضل راشد فتكون الثمرة المأبورة للمقيل الذي هو المبتاع إلا أن يشترطها البائع الذي هو المقال اه‏.‏

الثالث‏:‏ إذا مات المتطوع بالثنيا قبل الأخذ بها بطلت كانت لأجل أو لغير أجل كما هو ظاهر إطلاقاتهم لأنها هبة لم تقبض قاله أبو الفضل راشد واختاره أبو الحسن‏.‏ قال القوري حسبما في نوازل الزياتي وبه القضاء والفتوى، وقال أبو إبراهيم الأعرج‏.‏ لا تبطل بناء على أنها بيع، وأما إذا مات البائع فوارثه بمنزلته اتفاقاً‏.‏

الرابع‏:‏ إذا وقعت الإقالة مطلقة ولم يقل إن أتيتني بالثمن فأفتى فيها بعض بأنها إقالة لازمة للمشتري ولورثته قال‏:‏ لأن القاعدة المذهبية أن الإقالة بيع إلا في الطعام والشفعة والمرابحة ونحوها وعقود المعاوضات لا تفتقر إلى حيازة وليست هذه من ناحية من أوجب على نفسه الإقالة إذا أتى بالثمن الذي اختلف فيه أبو الفضل راشد وأبو إبراهيم للفرق الظاهر بين المطلقة والمقيدة من وجوه لا تخفى منها‏:‏ أن الإقالة المختلف فيها بين من ذكر هبة لأنها تجوز لغير أجل بإجماع ولو كانت بيعاً لما جازت لغير أجل، والإقالة المطلقة بخلاف ذلك لأنها بيع يشترط فيها شروطه، ومنها‏:‏ أن المقيدة إذا تصرف فيها المتطوع ببيع أو نحوه قبل أن يأتيه بالثمن مضى تصرفه حتى قال اللخمي‏:‏ إن ذلك يجوز له ابتداء إذا وقعت لغير أجل ولو كانت بيعاً محضاً جاز له ذلك لأنه تصرف في ملك الغير، ومنها‏:‏ أن المقيدة الغلة فيها للمشتري وعليه الضمان ما دام البائع لم يأته بالثمن وذلك دليل على أنها على ملكه بخلاف المطلقة فضمانها من المقال والغلة له من يوم العقد، وهذا أمر لا يختلف فيه‏.‏ ومنها‏:‏ أن المقيدة لم تقع فيها إقالة أصلاً وإنما وقع فيها تعليق إنشاء الإقالة عند الإتيان بالثمن، فإذا مات المشتري قبل الإتيان به فقد مات قبل وقوعها وقبل أن يخاطب بها فهي عند موته على ملكه وتنتقل إلى ورثته ففاتت كما تفوت إذا باعها المشتري المقيل، ولا كذلك المطلقة فإنها بيع قد تم بالإيجاب والقبول اه‏.‏ باختصار من خط أبي العباس الملوي رحمه الله‏.‏

الخامس‏:‏ أن المبتاع إذا بنى في الدار أو غرس في الأرض بعد أن طاع بذلك للبائع وقبل انقضاء الأجل فقال ابن رشد‏:‏ له قيمته منقوضاً لتعديه كما إذا بنى البائع في دار باعها على أن المبتاع بالخيار قبل انقضاء أمد الخيار أو بنى المبتاع قبل انقضاء أمد الخيار وكان الخيار للبائع اه‏.‏

قلت‏:‏ هذا إذا كانت مؤجلة بأجل، وأما إذا كانت غير مؤجلة فيفهم منه أن البناء والغرس فوت على المقال فلا سبيل له إليها بمنزلة البيع كما مر‏.‏

السادس‏:‏ الشفعة ثابتة في هذا البيع الذي تطوع فيه بالإقالة، ولو حصلت الإقالة بالفعل ما لم يجر العرف بشرطية ذلك في العقد كما يأتي قريباً وإلاَّ فهو بيع فاسد لا شفعة فيه أصلاً إلا بعد فواته إن قلنا إنها رهن كما مر‏.‏

السابع‏:‏ إذا أحضر البائع الثمن قبل انقضاء الأجل أو عنده أو أحضره في حياة المتطوع في المطلقة فلم يقبله المتطوع المذكور حتى مات أو انقضى الأجل بأيام فقال سيدي يحيى‏:‏ المتقدم ذكره إذا أثبت البائع أو ورثته ذلك فإنه ينفعهم ويرد إليهم الأصل بذلك ولا يفوت عليهم بموته ولا بانقضاء الأجل‏.‏

الثامن‏:‏ اختلف إذا باعه شيئاً عقاراً أو غيره وطلب البائع الإقالة فقال له‏:‏ أخاف أن تبيعه لغيري فقال‏:‏ إن أو إذا بعته لغيرك فهو لك بالثمن الأول وبالذي أبيعه به فأقاله المشتري، فإذا باعه البائع لغيره، فهو له، إن باعه بالقرب على ما في سماع ابن خالد لابن القاسم وابن كنانة لا إن باعها بعد بُعد، والقرب أن يبيعها في زمن تلحقه فيه التهمة، والبعد أن يبيعها بعد زمان تنقطع فيه التهمة عن البائع ويظهر منه حدوث رغبة في البيع كما في المتيطية، هذا إذا عبّر بأن أو إذا كما مرّ، وأما إذا عبر بمتى فهو له ولو باعه بعد بُعد لأن متى لا تقتضي قرب الزمان كما قاله ابن رشد قال‏:‏ وإنما جاز هذا الشرط في الإقالة لأنها معروف، ولمحمد بن خالد أن الإقالة على هذا الشرط لا تجوز كالبيع اه‏.‏ البرزلي أوائل البيوع من ديوانه عن المازري، والمشهور من المذهب فساد هذه الإقالة لما في ذلك من التحجير وهي بيع من البيوع، فإذا نزلت فسخت الإقالة وإن طال ذلك وفاتت الأرض ونحوها بالبيع مضى البيع وفاتت الإقالة به لأنه بيع صحيح اه‏.‏ ثم ما تقدم من الفرق بين إن ومتى هو ما فهمه ابن رشد وفهم صاحب ضيح أنه لا فرق بينهما لأنه عبر بمتى وفرق بين القرب والبعد‏.‏ وفي الالتزامات لابن رشد قول ثالث وهو أنه إن استقاله فقال‏:‏ أخشى أنك إنما سألتني الإقالة أو البيع لربح ظهر لك لا لرغبة في المبيع فقال‏:‏ بل لرغبتي فيه فأقاله أو باعه على أنه أحق به إن باعه فهو أحق به بالقرب وإن لم يقل له شيء من ذلك، وإنما أقاله أو باعه على أنه إن باعه فهو أحق به بالثمن لم يجز ذلك في البيع، ويختلف في الإقالة لأن بابها المعروف لا المكايسة اه‏.‏ وقد تحصل أن في المسألة أقوالاً مشهورها الفساد، والثاني اختيار ابن رشد، والثالث صحة الإقالة ويفرق بين القرب والبعد، وهل يشترط أن يعبر بإن أو إذا لا بمتى وإلا لزمه الشرط، وإن باع بعد طول‏.‏ وهو فهم ابن رشد أو مطلقاً وهو ظاهر كلام ضيح لأنه عبر بمتى وفرق بين القرب والعبد، وعلى القول بصحة الإقالة هنا تستثنى هذه المسألة ومسألة التطوع بها بعد العقد من قولهم‏:‏ لا يقبل البيع تعليقاً كما قيل‏:‏

لا يقبل التعليق بيع ونكاح

فلا يصح بعت ذا إن جا فلاح والفرق بين هذه وبين التطوع بالإقالة حتى جرى في هذه خلاف، وجاز التطوع بإجماع ظاهر لأنه في التطوع التزم بعد العقد أن ينشىء المبيع عند الإتيان بالثمن كما مر‏.‏ وهذه التزم في صلب عقد الإقالة إنه إن باعها فهو أحق بها والله أعلم‏.‏ وعلى القول بصحة الإقالة فهل تبطل بموت المقال لأنها معروف كما مرّ عن ابن رشد وبه أفتى بعضهم‏.‏ قال أبو العباس الملوي‏:‏ ويظهر لي أنها لا تبطل بموته بل هي لازمة لورثته لأن الظاهر في المسألة أنها من باب الالتزام المعلق على فعل الملتزم له، وذلك لأن المقال التزم للمقيل أنه إن باعها فهو أحق بها على شرط أن يقبله فليست المسألة من باب التبرع المحض، وإنما هي من باب هبة الثواب‏.‏ وقد ذكره في الالتزامات في التنبيه الثالث قبل الكلام على بيع الثنيا أن الالتزام على الفعل المعلق على فعل الملتزم له لا يبطل بالموت لأنه معاوضة، وتقدم قبل التنبيه المذكور‏:‏ من التزم لغيره مالاً على أن يطلق زوجته لا يفتقر لحيازة وتقدم صدر الالتزامات قول ابن رشد‏:‏ من التزم نفقة زوجة ولده في صلب العقد فإنها لا تسقط بموته، وتأمل قولهم‏:‏ لا تفتقر النحلة إلى حيازة فالجاري على قواعد المذهب لزوم ذلك لورثته إن لم يحصل طول لأنه ليس بمعروف صرف حتى يبطل بالموت، وإنما هي معاوضة لأنه ما أقاله إلا ليلتزم، وأما ما ذكروه في الطوع بالثنيا من النزاع بين الفقيه راشد وغيره، فليس من هذا الباب لأن ذلك طوع بالإقالة لا شرط فيه اه‏.‏ باختصار من خطه رحمه الله، وإنما أطلت في هذه المسألة لكثرة وقوعها‏.‏ ومن الفقهاء المهرة من يقول بصحة الإقالة فيها، ولا سيما وهو قول مالك وابن القاسم قال في الالتزامات بعد نقل قولي مالك وابن القاسم بالجواز، ونقل كلام ابن رشد واختياره ما نصه‏:‏ الحاصل أن هذا الشرط لا يجوز في البيع ويفسده وليس في ذلك خلاف، وأما في الإقالة فاختلف قول مالك وابن القاسم بجوازه، ولذلك اقتصر عليه أي على جوازه الشيخ خليل في كلامه السابق في شروط النكاح، واقتصر عليه أيضاً غير واحد من الموثقين، والخلاف جار ولو كان في أمة فإن المسألة مفروضة في سماع محمد بن خالد فيمن يبيعه أرضه أو جاريته ثم يستقيله، ومقتضى كلامهم أن ذلك لا يوجب منع البائع من وطئها بعد الإقالة وهو ظاهر والله أعلم اه‏.‏ فكلامه هذا يفيد أن المعتمد في المسألة هو الجواز، ولذلك اقتصر عليه في ضيح كما قال‏:‏ ولا سيما وقد ذكره في ضيح في معرض الاحتجاج على أن المرأة إذا وضعت شيئاً من صداقها خوف طلاقها فإن طلقها بالقرب رجعت بما وضعت وإلاَّ فلا‏.‏ قال‏:‏ كما قالوا إذا سأل البائع المشتري الإقالة فقال له المشتري‏:‏ إنما مرادك البيع لغيري، فيقول له البائع‏:‏ متى بعتها فهي لك بالثمن الأول أنه إن باع عقب الإقالة أو قريباً منها فللبائع شرطه وإن باع بعد طول أو لحدوث سبب فالبيع ماض اه‏.‏ ومثله لابن عبد السلام‏.‏ ومعلوم أنه لا يحتج بمختلف فيه فقد نزلا القائل بالمنع منزلة العدم ولو كان القول بالمنع مشهوراً كما قال المازري ما صح لهما الاحتجاج، وقد علمت أنه في سماع محمد بن خالد ومثله لسحنون في سماعه عن ابن القاسم أيضاً وأنه قول مالك في سماع أشهب وابن القاسم أيضاً مستدلاً على جواز الإقالة المذكورة بمسألة الوضيعة للطلاق، وصحح استدلاله ابن رشد كما في الالتزامات وذلك كله من أدل دليل على أرجحيته‏.‏ ولذا اقتصر عليه الناظم في فصل الإقالة، وكذا اقتصر عليه غير واحد من الموثقين، والاقتصار من علامات التشهير وعليه فاعتراض ‏(‏ت‏)‏ والشيخ بناني في حاشيتهما على ‏(‏ ز‏)‏ الذي اعتمد الجواز في المسألة تبعاً للأجهوري بتشهير المازري، وبقول ابن رشد الذي يوجبه القياس، والنظر عندي أنه لا فرق بين الإقالة والبيع في هذا الخ‏.‏ لا يتم ولا يحسن لما علمت من قوة القول بالجواز وتحصيل ‏(‏ح‏)‏ يفيد أنه المعتمد، ولأن ابن رشد لم يقتصر على هذا، بل زاد واختار التفصيل الذي تقدم عنه، فاختياره قول ثالث كما مر، ولأنه لما تكلم على ما في سماع سحنون صحح الجواز وعضده، ولأن التحجير الذي في كلام المازري ينتفي بالطول الذي تنتفي معه التهمة فيمضي تصرفه أو لأنه مغتفر لجانب المعروف، ولأن ‏(‏ح‏)‏ لم يعرج على تشهير المازري في الالتزامات أصلاً، وكذا لم يذكره ابن عرفة ولا غيره، ولما نقل ‏(‏ح‏)‏ كلام المازري عند قول المصنف والإقالة بيع قال‏:‏ والمسألة مذكورة في ابن عبد السلام وضيح وبهرام الكبير في فصل الصداق إشارة منه إلى أن الجماعة على خلاف تشهيره، وكذا المواق فإنه قال عند قول ‏(‏خ‏)‏‏:‏ كان لا يبيع ما نصه الإقالة بيع فإن أقاله على أن لا يبيع فبينها وبين البيع على هذا الشرط فرق كالزوجة تضع مهرها على شرط أن لا يطلقها الخ‏.‏ فلم يعرج على تشهير المازري الذي نقله البرزلي مع أنه كثيراً ما ينقل كلامه، بل اعتمد في ذلك نص الرواية ولأنهم قالوا كما للشيخ طفي وغيره‏:‏ إذا اتفق قول سحنون وابن القاسم لا يعدل عنه فكيف إذا وافقهما قول الإمام‏؟‏ ذكر ذلك في باب الزكاة، وبما لمالك في سماع أشهب أفتى سيدي أحمد بن عبد الوهاب الشريف حسبما في نوازل العلمي، وما كان يخفى على مثله ولا على غيره تشهير المازري والله أعلم‏.‏

وَحَيْثُمَا شَرْطٌ عَلَى الطَّوْعِ جُعِلْ *** فَالأَحْسَنُ الكَتْبِ بِعَقْدٍ مُسْتَقِلْ

‏(‏وحيثما شرط على الطوع جعل‏)‏ لو قال وحيثما الثنيا لسلم من التدافع الذي بين شرط وطوع قاله ‏(‏ت‏)‏ ‏(‏فالأحسن الكتب‏)‏ لذلك الطوع ‏(‏بعقد مستقل‏)‏ عن رسم البيع قاله ابن مغيث، والذي مضى عليه العمل أن يكتب في عقد الطوع بالثنيا على انفراده لأنه أبعد من المظنة وإن وقع ذلك في عقد الابتياع أي قبل تقييد الإشهاد وبعد وصف البيع بأنه لا شرط فيه ولا ثنيا ولا خيار جاز ذلك اه‏.‏ ونحوه في المتيطية وابن سلمون‏.‏ ثم إذا كتب ذلك الطوع في عقد مستقل أو في آخر رسم الابتياع وادعى أحدهما أن ذلك إنما كان شرطاً مدخولاً عليه والآخر أنه طوع حقيقي‏.‏

وَالْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعٍ لِلطّوْعِ *** لا مُدَّعِيَ الشَّرْطِ بِنَفْسِ البَيْعِ

‏(‏فالقول قول مدع للطوع‏)‏ بيمين وقيل بلا يمين للبينة التي قامت له وثالثها يحلف المتهم فقط ‏(‏لا‏)‏ قول ‏(‏مدعي الشرط بنفس البيع‏)‏ وأنهما دخلا على الثنيا في أصل العقد‏.‏ هذا قول ابن العطار قائلاً لأن الأصل في العقود الصحة، وفي طرر ابن عات عن المشاور إن القول لمدعي الشرطية فيحلف ويفسخ البيع لما جرى من عرف الناس قال‏:‏ وبذلك الفتوى عندنا اه‏.‏ ولذا اعترض الشارح هذا البيت على أبيه قائلاً‏:‏ إن ابن العطار وقف مع قولهم أن القول لمدعي الصحة دون ما قيد من قولهم إلا حيث يغلب الفساد يعني وهذه المسألة مما يغلب فيها الفساد فيجب أن يكون القول فيها لمدعيه كما قال ابن الفخار اه‏.‏ ومما يرجحه قول ابن فرحون في تبصرته إذا اختلف المتبايعان في صحة العقد وفساده فالقول لمدعي الصحة إلا أن يكون جل أهل ذلك البلد أن معاملتهم على المكروه والحرام فالقول قول مدعي ذلك مع يمينه لأن استفاضة ذلك وشهرته في البلد صار كالبينة القاطعة والشهادة التامة وعلى مدعي الحلال البينة اه‏.‏ هو قول ‏(‏ خ‏)‏ والقول لمدعي الصحة إلا أن يغلب الفساد اه‏.‏ وظاهر هذا أن الخلاف جار ولو نص في الوثيقة أن البيع وقع دون شرط ولا ثنيا ولا خيار وهو كذلك كما في البرزلي، ونقله العلمي أيضاً‏.‏ وفي المعيار سئل ابن رشد عما يكتب من الشروط على الطوع والعرف يقتضي شرطيتها فقال‏:‏ إذا اقتضى العرف شرطيتها فهي محمولة على ذلك ولا ينظر لكتبها على الطوع لأن الكتاب يتساهلون فيها وهو خطأ ممن فعله‏.‏ وأجاب ابن الحاج بأن الحكم للمكتوب لا للعرف اه‏.‏ وعلى ما لابن رشد عول في اللامية حيث قال‏:‏

وشرط نكاح إن نزاع بطوعه *** جرى مطلقاً فاعمل على الشرط واعدلا

ولا مفهوم لنكاح، وبهذا كله يعلم ما في قول المتيطية إنه إذا قال في الوثيقة‏:‏ دون شرط ولا ثنيا ولا خيار فمحل اتفاق أن القول لمدعي الطوع الخ‏.‏ بل الخلاف موجود كما ترى، وفي نوازل المجاصي أنه سئل عن هذه المسألة فأجاب‏:‏ بأنه قد تكرر مني جواب بعد جواب غير مرة ولا أدري ما هذا، ورأيي فيها تابع لرأي بعض شيوخنا رحمهم الله، وأنه متى ثبت رسم الإقالة ولو بصورة التطوع فهو محمول على أنه شرط في نفس العقد، وقول المتيطي‏:‏ ما لم يقل ولا ثنيا ولا خيار الخ‏.‏ ذلك عرف وقته إذ لا تعرف عامة زمننا الثنيا بل يسمونه بيعاً وإقالة، والشهود يجرون المساطير من غير تحقيق لمعنى ما يكتبون اه‏.‏ ونحوه في ‏(‏م‏)‏ و‏(‏ت‏)‏ قالا‏:‏ ويدل عليه أن البيع يقع بأقل من القيمة بكثير، فلولا أن البائع يعتقد أن ذلك بيد المشتري كالرهن ما رضي بذلك الثمن ولا بما يقرب منه اه‏.‏

قلت‏:‏ كون البيع يقع بأقل من القيمة بكثير مما يدل على أنه رهن، وأنه شرط في صلب العقد كما يأتي لا على أنه شرط في العقد فقط، ويؤيد ما نحن بصدده من أن القول لمدعي العرف ما يأتي للناظم في اختلاف المتبايعين‏:‏

فالقول قول مدع للأصل *** أو صحة في كل فعل فعل

ما لم يكن في ذاك عرف جار *** على خلاف ذاك ذو استقرار

ويؤيده أيضاً ما مر عن ابن سلمون عند قوله في بيع الأصول‏:‏ وجاز في الدار أن يستثنى الخ‏.‏ أن المشتري إذا التزم أن لا يبيع حتى ينصف من الثمن فإن كان في صلب العقد فهو فاسد وإلاَّ صح فإن اختلفا في كونه في العقد أو بعده فالقول لمدعي الشرط لأنه العرف اه‏.‏ وظاهره ولو كتب على الطوع فهذا كله يدل على صحة اعتراض الشارح ومن تبعه على الناظم، ولذا قال ابن رحال في حاشيته ههنا ما قال يعني ‏(‏م‏)‏ كله صحيح، وعليه المعول في هذه المسائل ولا محيد عنه أصلاً فإنه موافق لكلام المحققين اه‏.‏ ونحوه له في شرح المختصر‏.‏

قلت‏:‏ هذا كله يؤيد ما مر في التنبيه الأول عند قوله‏:‏ والبيع بالثنيا لفسخ داع الخ‏.‏ لأنه إذا كان العرف يجب اتباعه في هذه، وإن خالفه المكتوب فكذلك في تلك يجب اتباعه، وإن كتبوا أنها بيع لأن العرف أنهم يتحيلون بكتب البيع على إسقاط الغلة كما مر، وذلك كله إذا كانت الإقالة شرطاً في صلب عقد البيع كما مر، وكذا يقال‏:‏ إذا كتبت طوعاً بعد العقد وادعى البائع شرطيتها فيه وأنها رهن كتبت بصورة البيع تحيلاً لإسقاط الغلة أو الحيازة فإنه يصدق حيث ثبت العرف بالشرطية والارتهان كما مر، ففي البرزلي ما نصه في أحكام ابن حديد‏:‏ إذا ادعى البائع أن البيع كان في أصله رهناً فالذي نقول به إن المبتاع إن كان من أهل العينة والعمل بمثل هذا وشبهه، فالقول قول البائع مع يمينه أنه رهن ولا يخفى أن الناس اليوم على ذلك العمل من كونهم لا يتورعون عن اكتساب الأشرية بمكان الارتهان كما هو مشاهد بالعيان‏.‏

وفي المعيار عن أبي يوسف الزغبي ما نص‏:‏ الغرض منه أن بينة البيع هي المعمول بها إلا أن تقوم بينة أن عرف البلد في البيع الذي يقع الحوز فيه بالمعاينة على الرهن، ثم تقع الثنيا بعده أنه رهن في كل ما يقع من ذلك ولا يشذ عن ذلك شيء فحينئذ يحمل الأمر على الرهن اه‏.‏ لكن قوله‏:‏ ولا يشذ عن ذلك شيء الخ‏.‏ فيه شيء بل كذلك إذا غلب ذلك لأن الحمل على الغالب واجب، وفي نوازل السجتاني بعد ما مر عنه عند قوله‏:‏ لفسخ داع الخ‏.‏ بأوراق أنه سئل عما يفعله أهل الجبال من ارتكابهم البيع الذي تعقبه الإقالة تحيلاً على إسقاط الغلة لو عقدوه بلفظ الرهن، وقصدهم في ذلك، إنما هو الرهن بهذا تقرر عرفهم فقال‏:‏ حمل أمرهم على ما جرى به عرفهم واجب محتم في القضاء والفتوى لا مندوحة عن ذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏خذ العفو وأمر بالعرف‏}‏ ‏(‏الأعراف‏:‏ 199‏)‏ وإذا وجب حمل ما يعقدونه من الثنيا الطوعي على الرهن جرى في بيع ذلك على سائر بياعات الرهان من جواز بيعه بيد المرتهن بشرطه، والسكوت عنه السنين الطويلة لا يضر اه‏.‏ فتبين بهذا أن المدار على العرف فإذا جرى بالرهنية فالعمل عليها كانت الثنيا شرطاً في العقد أو طوعاً بعده ويدل على الرهنية المذكورة كون البيع يقع بأقل من القيمة بكثير، وأنهم يبيعونه وهو بيد مشتريه ويقولون‏:‏ وضع ملكه بيد فلان إلى غير ذلك مما مر عن السجستاني و‏(‏ م‏)‏ وكفى به دليلاً على الارتهان المذكور‏.‏ وتقدم أن ابن رحال صحح جميع ما في ‏(‏م‏)‏‏.‏

تنبيه‏:‏

ما تقدم من أن القول لمدعي الشرط والفساد محله إذا لم يكن قد أشهد في عقد الطواعية بإسقاط دعوى الفساد، وإلاَّ فلا يلتفت لدعواه ولو أثبتها ببينة لأنه قد كذبها قاله في أواخر بيوع المعيار، وأشار له ‏(‏خ‏)‏ ومحله أيضاً والله أعلم إذا لم يبعد ما بين التطوع بها والبيع كالأربعة أشهر ونحوها، وإلاَّ فينبغي أن تحمل على التطوع حقيقة حيث كان الثمن هو قيمة المبيع أو ما يقرب منها‏.‏ وانظر ما تقدم عند قوله في النكاح‏:‏ ويفسد النكاح بالإمتاع في عقدته الخ‏.‏

فصل في بيع الفضولي

وهو الذي يبيع مال غيره بغير توكيل ولا إيصاء عليه‏.‏ ‏(‏وما يماثله‏)‏ كهبة واستفادة الزوج مال زوجته وقسمة تركة المديان قبل أداء الدين‏.‏

وَحَاضِرٌ بِيعَ عَلَيَهِ مَالُهُ *** بِمَجْلِسٍ فِيهِ السُّكُوتُ حَالُهُ

‏(‏وحاضر‏)‏ ولو امرأة ‏(‏بيع عليه ماله بمجلس فيه السكوت حاله‏)‏ فلم ينكر ولم يغير وهو عالم بأنه ملكه ساكت بلا عذر، فإن كان له عذر فسيذكره‏.‏ وقد اختلف في السكوت هل هو إذن وإقرار أم لا‏؟‏ وأظهر القولين إنه ليس بإذن ولا بإقرار إلا فيما يعلم بمستقر العادة أن أحداً لا يسكت عنه فيكون إذناً وإقراراً كما ذكره ‏(‏ح‏)‏ عن ابن رشد في باب الإقرار‏.‏

يَلزَمُ ذَا البَيْعُ وَإنْ أَقَرَّ مَنْ *** بَاعَ لَهُ بِالْمَلِكِ أُعْطِيَ الثَّمَنْ

‏(‏يلزم ذا‏)‏ فاعل يلزم ‏(‏البيع‏)‏ نعت له أو بدل، والجملة خبر عن قوله‏:‏ وحاضر الخ‏.‏ وسواء كان البائع أجنبياً أو شريكاً باع الجميع وانظر آخر الشفعة من ابن سلمون‏.‏ وقولي‏:‏ ولو امرأة أعني أجنبية أو زوجة أو أختاً للبائع، ولا مقال للأخت في أنها إنما لم تغير خشية قطيعة أخيها‏.‏ قال أبو الحسن الصغير‏:‏ وأما إذا باع الأخ نصيبه ونصيب أخته وعلمت به فالشأن أنهن يقمن على المشتري ولا يسكتن عنه، فيعد سكوتهن رضا إن لم يمنعهن مانع أي بخلاف استغلاله ملك أخته وهي ساكتة عالمة، فلها الرجوع بالغلة لأن عادة نساء البادية والحاضرة أن يطلبن ميراثهن من قرابتهن ولا يطلبن الغلة خوفاً من قطيعة رحمهن اه‏.‏ باختصار‏.‏ وانظر الاستحقاق من المعيار فيمن بيع عليها حظها، وقال الشهود‏:‏ ولا يعلمونها قامت عليه في شيء من ذلك أن قولهم ذلك لا يفيد لاحتمال أن تكون في دارها لا تتصرف، ولا نعلم حتى يقولوا إنها كانت ترى ذلك وتشاهده وتمر عليه ولا تنكره اه‏.‏ فانظر ذلك فيه وراجعه فإن فيه كلاماً حسناً، وظاهر النظم أن الساكت المذكور لا يعذر بالجهل إذا ادعى أنه جهل لزوم البيع بسكوته وهو كذلك كما في التوضيح ونقله ‏(‏ ح‏)‏ ولها نظائر ذكرها ‏(‏تت‏)‏ في باب الطلاق من شرحه على الرسالة، وذكرها في ضيح في النكاح، وسيأتي آخر الفصل ما يخالفه فانظره‏.‏ وظاهره أيضاً أنه لا كلام للمشتري في حال العقد عن نفسه لانتقال عقدته، وفيه أقوال انظرها في المتيطية في ترجمة عهدة الوصي والوكيل ‏(‏و‏)‏ إذا لزم البيع للساكت المذكورة ف ‏(‏إن أقر من باع‏)‏ فاعل بأقر ‏(‏له بالملك‏)‏ يتعلقان بأقر ‏(‏أعطي‏)‏ المقر له ‏(‏الثمن‏)‏ مؤاخذة له بإقراره سواء أقر بالمجلس أو بعده بطول أو قرب قام المالك يطلب الثمن في الحين أو بعد سنين، إذ طول السنين لا يبطل حقه المقر له به‏.‏

وأشار إلى مفهوم قوله‏:‏ وان أقر الخ فقال‏:‏

وإنْ يَكُنْ وَقْتَ المبِيعِ بائِعُهْ *** لِنَفْسِهِ ادَّعَاهُ وَهْوَ سَامِعُهْ

‏(‏وإن يكن وقت المبيع‏)‏ هو اسم مفعول بمعنى المصدر كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بأيكم المفتون‏}‏ ‏(‏القلم‏:‏ 6‏)‏ أي الفتنة‏.‏ أي‏:‏ وإن يكن وقت البيع‏.‏ ‏(‏بائعه‏)‏ اسم يكن ‏(‏لنفسه ادعاه‏)‏ ولم يقرّ به للمالك بل قال‏:‏ أنا أبيع ما لي وملكي ‏(‏وهو‏)‏ أي المالك ‏(‏ سامعه‏)‏ حين كان يقول ذلك، ومع ذلك سكت فلم يغير ولم ينكر حتى انقضى المجلس، وتم البيع، فإن قام قبل السنة وأثبت أنه ملكه والبائع لا زال على إنكاره ولكنه لم يجد مطعناً فيما أثبته المالك فيقضي على البائع بدفع الثمن للمالك ولا ينقض البيع لأنه بسكوته لزمه، وأما إن قام بعد السنة من يوم البيع فهو قوله‏:‏

فما لَهُ إنْ قَامَ أيَّ حِينِ *** في ثَمنٍ حَقّ وَلاَ مَثْمُونِ

‏(‏فما له إن قام أي حين‏)‏ أي بعد حين وهو السنة ‏(‏في ثمن حق ولا مثمون‏)‏ هذا ما يفيده كلام ابن رشد المنقول في ‏(‏ح‏)‏ ونصه قال ابن رشد‏:‏ إن كان حاضر الصفقة فسكت حتى انقضى المجلس لزمه البيع وكان له الثمن، وإن سكت بعد انقضاء المجلس حتى مضى العام ونحوه استحق البائع الثمن بالحيازة مع يمينه اه‏.‏ زاد ‏(‏ق‏)‏ عنه في آخر الشهادات مع يمينه أنه انفرد به بالوجه الذي يذكره من ابتياع أو مقاسمة وما أشبه ذلك اه‏.‏ ومعنى كلامه أنه كان ينكره، ولكن أثبت المالك بعد سكوته أنه ملكه ولم يجد البائع مطعناً فيه، ولكن ادعى أنه صار له بابتياع أو مقاسمة أو هبة ونحوه، فالبيع لازم بسكوته وله الثمن إن قام قبل السنة لا بعدها، وبه يسقط إشكال ‏(‏ت‏)‏ الذي أشار له في حاشيته على ‏(‏ز‏)‏ من أنه إذا كان البائع يدعي ملكه فلا وجه للتقييد بالسنة إذ القول قوله ولو داخلها لحوزه وتصرفه، وإن كان مقراً بأنه ملك لغيره فالثمن له ولو بعد سنين اه‏.‏ جوابه هو ما تقدم من أنه كان ينكره لكنه لما اتصل سكوته من ابتداء البيع إلى تمام السنة تقوي جانب البائع وصدق في الوجه الذي يذكره، ولم تعتبر بينة المالك بخلاف ما إذا لم يتصل سكوته وقام بالفور، فلو أبدل الناظم أي‏:‏ ببعد لكن أحسن‏.‏

ثم أشار إلى ما إذا لم يحضر للبيع فقال‏:‏

وَغَائِبٌ يَبْلُغهُ مَا عَمِلَهْ *** وَقَامَ بَعْدَ مُدّةٍ لاَ شَيْءَ لَهْ

‏(‏وغائب‏)‏ عن مجلس عقد البيع ‏(‏يبلغه ما عمله‏)‏ الفضولي في ماله من بيعه وادعائه لنفسه فلم يقم حينئذ ‏(‏و‏)‏ إنما ‏(‏قام بعد‏)‏ انقضاء ‏(‏مدة‏)‏ الحيازة وأثبت ملكية ذلك وعجز الفضولي عن الطعن فيها فإنه ‏(‏لا شيء له‏)‏ أي المالك لا من ثمن ولا غيره لأن سكوته بعد العلم المدة الطويلة دليل على صدق البائع فيما يذكره من الوجه الذي صار به إليه كما مر‏.‏ ومفهوم قوله بعد مدة إنه إذا قام قبلها كان له مقال وهو كذلك‏.‏ قال ابن رشد إثر ما مر عنه‏:‏ وإن لم يعلم بالبيع إلا بعد وقوعه فقام حين أعلم أخذ حقه وإن لم يقم إلا بعد العام ونحوه لم يكن له إلا الثمن وإن لم يقم حتى مضت مدة الحيازة لم يكن له شيء ويستحقه الحائز بما ادعاه بدليل حيازته إياه اه‏.‏ بنقل ‏(‏ح‏)‏ و‏(‏ق‏)‏ وهكذا نقله أبو الحسن والمتيطي والبرزلي وغيرهم وسلموه، وقوله حين علم أي بفور علمه قبل مضي مدة تدل على رضاه بالبيع وإلاَّ فليس له الثمن، ولو قام قبل السنة على ما يأتي عن أحمد بن عبد الملك في البيت بعده وهو المعتمد، وقوله‏:‏ أخذ حقه الخ‏.‏ يعني إن شاء فسخ البيع وإن شاء أمضاه وأخذ الثمن وهو قول ‏(‏خ‏)‏‏:‏ ووقف ملك غيره على رضاه الخ‏.‏ وانظر ما مراده بمدة الحيازة، والظاهر أن المراد بهما ما زاد على العام ونحوه زيادة لها بال تدل على صدق البائع وكذبه هو في دعواه لا أنها العشر سنين وإلاَّ حصل التدافع والتعارض في كلامه كما لا يخفى، لأنه إذا كان المراد بها العشر فلا معنى لتحديد كون الثمن له بالعام ونحوه‏.‏

وَغَيْرُ مَنْ فِي عُقْدَةِ الْبَيْعِ حَضَرْ *** وبالمبيع بَائِعٌ لَهُ أَقَرْ

‏(‏وغير من في عقدة البيع حضر‏)‏ هذا مستغنى عنه لأنه هو قوله‏:‏ وغائب الخ‏.‏ وعليه فلو أسقط هذا البيت وقال بدله ما نصه‏:‏

إن بائع باع وملكه ذكر *** وإن بملك بائع له أقر

 وقام بالفور الخ‏.‏ ‏(‏وبالمبيع بائع له أقر‏)‏ بأن قال‏:‏ أبيع متاع فلان عند العقد أو بعده بقرب أو بعد وصدقه المشتري‏.‏

وَقَامَ بالْفَوْرِ فذا التَّخْيَيرُ فِي *** إمْضائِهِ البَيْعَ أوِ الْفَسْخَ اقْتُفِي

‏(‏وقام‏)‏ فلان ‏(‏بالفور‏)‏ أي بفور علمه ‏(‏فذا‏)‏ مبتدأ ‏(‏التخيير‏)‏ مبتدأ ثان ‏(‏في إمضائه البيع أو الفسخ‏)‏ بالجر عطفاً على إمضائه وأو بمعنى الواو والمجرور متعلق بالتخيير ‏(‏اقتفي‏)‏ خبر أي‏:‏ فهذا الذي قام بالفور التخيير في الإمضاء والفسخ اقتفى له، وظاهره أن البيع جائز ولو علم المشتري بتعدي البائع وهو كذلك على أحد قولين مشهورين وعليه عول ‏(‏خ‏)‏ إذ قال‏:‏ وملك غيره على رضاه ولو علم المشتري الخ‏.‏ ابن عرفة قال المازري‏:‏ لو علم المشتري بتعديه ففي إمضائه بإمضاء مستحقه قولان مشهوران، وينبغي حمله على أنهما دخلا على بت البيع مطلقاً وعدم تمكين مستحقة من فسخه، ولو دخلا على تمكينه من فسخه لم ينبغ أن يختلف في فساده اه‏.‏ وعليه فبيع ملك الغير على ثلاثة أقسام‏:‏ تارة يجهله المبتاع ولا يعلم بتعديه إلا بعد العقد فالبيع لازم للمشتري إن أمضاه ربه، وتارة يعلم المبتاع بتعديه فهو بيع خيار وإن دخلا على عدم تمكين ربه من رده، فالذي عول عليه ‏(‏خ‏)‏ هو أحد قولين مشهورين جوازه وهو خيار أيضاً، ولربه إمضاؤه أو فسخه‏.‏ وكلام الناظم شامل لذلك كله فقوله‏:‏ وقام بالفور يعني في الأقسام الثلاثة‏.‏ قال ابن بطال‏:‏ قال لي أحمد بن عبد الملك‏:‏ والمراد به أبو عمر الإشبيلي المعروف بابن المكوي في الرجل الذي لم يحضر البيع إذا علم وسكت يوماً أو يومين أو ما قرب فإن له القيام ويفسخ البيع ما لم تكثر الأيام فيلزمه اه‏.‏ وهذا هو المعتمد عند الناظم خلافاً لما لابن زرب من أن له القيام في السنة والسنتين من يوم العلم الخ‏.‏ وانظر ابن سلمون في فصل بيع الحاضن، وانظر شارح نظم العمل للإمام الرباطي عند قول ناظمه في الصفقة والزم البيع ولا كلاماً الخ‏.‏ ثم لا بد حيث علم المشتري بالتعدي أن لا تبعد غيبة المالك وأن لا يشترط البائع على المشتري النقد حينئذ‏.‏ وأن يكتبا إليه في القريبة وإلا فسد البيع كما مر في الخيار، وهذا والله أعلم هو معنى قول ابن عرفة‏:‏ ولو دخلا على تمكين المالك من فسخ البيع لم ينبغ أن يختلف في فساد البيع أي لأنه حينئذ بيع خيار بمشورة بعيد أو بشرط النقد أو لمدة مجهولة حيث لم يدخلا على الكتابة إليه في القريبة، وكل ذلك موجب للفساد وفيه مخالفة حينئذ لما مر عن ابن بطال الذي درج عليه الناظم لأنّ ظاهره أن البيع لازم إذا كثرت الأيام، ولو علم المشتري بتعديه لكن ما لابن عرفة هو الذي عليه قولها في الخيار إذا دخلا على الخيار ولم يضربا له أجلاً فإنه يضرب له من الأجل ما يليق بتلك السلعة اه‏.‏ فمفهومه أنه إذا غفلا ولم يضربا لها ما يليق بها كان البيع فاسداً كما مر، وهنا حيث علم المشتري بالتعدي دخلا على خيار المالك وغفلا عن ضرب ما يليق بالمبيع فتأمله‏.‏ وأما إذا لم يعلم المشتري بالتعدي حين العقد بل بعده أو دخلا على عدم تمكين المالك من فسخه فالشراء لازم له في القريبة ويكتب لمالك كما قاله أبو الحسن، وفي البعيدة‏:‏ لا يلزمه‏.‏ وله أن يحل عن نفسه لما يلحقه بسبب الصبر من الضرر كما قاله اللخمي وغيره قال في المتيطية‏:‏ فإن لم يعلم المشتري حتى قدم الغائب فأمضى البيع فهو ماض ولا مقال للمشتري اه‏.‏

قلت‏:‏ ويبقى النظر إذا علم المشتري والغائب البعيد الغيبة ورضي المشتري بالصبر لقدومه فظاهر كلامهم أن البيع صحيح ولو طالت الغيبة أكثر من زمن الخيار في تلك السلعة فتأمله‏.‏ ولكن ظاهر ما تقدم عن أبي الحسن في الخيار أن البيع يفسد فانظره‏.‏ وقولي‏:‏ وصدقه المشتري احترازاً مما إذا أكذبه فإنه لا يمضي قوله عليه كما قال ‏(‏خ‏)‏ في الإجارة لا بإقرار المالك أي‏:‏ لا تنفسخ الإجارة عقدها بإقرار مالك الدابة أو الدار أنهما لغيره والبيع كذلك لا يقبل فيه قول البائع إن المبيع لغيره إلا إذا أقام الغير بينة أنه له فيثبت له الخيار حينئذ وإلاَّ فليس له إلا الثمن أو الأجرة‏.‏

تنبيه‏:‏

حيث نقض المالك بيع الفضولي فللمشتري الغلة في جميع الأحوال لأن الضمان منه إلا إذا علم بالتعدي حين العقد، ولم تكن للبائع شبهة من كونه من ناحية المالك أو يتعاطى أموره ونحو ذلك كما في شراح ‏(‏خ‏)‏‏.‏

ثم أشار إلى مفهوم وقام بالفور فقال‏:‏

وإنْ يَقُمْ مِنْ بَعْدِ أَنْ مَضى زَمَنْ *** فالبَيْعُ مَاضٍ وَلَهُ أَخْذُ الثَّمَنْ

‏(‏وإن‏)‏ لم ‏(‏يقم‏)‏ بالفور وإنما قام ‏(‏من بعد أن مضى زمن‏)‏ زاد على الخمسة أيام والستة على ما يظهر من النص السابق ‏(‏فالبيع ماض وله‏)‏ أي للمالك ‏(‏أخذ الثمن‏)‏ منه لأنه أقر بأنه لا يستحقه ولا يسقطه عنه سكوت المالك ولو طال الزمان كما مرّ أول البيوع‏.‏ ثم أشار إلى محل لزوم البيع في حق الحاضر والغائب فيما تقدم إذا سكت لغير عذر فقال‏:‏

إنْ كَانَ عَالِماً بِفَعْلِ البَائِعِ *** وَسَاكِتاً لغيرِ عُذْرٍ مَانِعِ

‏(‏إن كان‏)‏ المبيع عليه ماله الحاضر أو الغائب ‏(‏عالماً‏)‏ حين العقد في الحاضر أو بعده في الغائب ‏(‏بفعل البائع وساكتاً‏)‏ حتى انقضى المجلس في الحاضر أو حتى مضت مدة تدل على رضاه في الغائب ‏(‏من غير عذر مانع‏)‏ له من التغيير والإنكار، ومفهومه أنه إن لم يعلم بفعل البائع أو علم وسكت لعذر من سطوة البائع أو كان ذلك في بلاد السائبة ونحو ذلك فله القيام وهو كذلك إذا أشهد العدول بأنه غير راض بما فعله البائع وقام بفور زوال العذر والله أعلم‏.‏

وحاضِرٌ لِوَاهِبٍ مِنْ مَالِهِ *** وَلَمْ يُغَيِّرْ مَا رَأى مِن حَالِهِ

‏(‏و‏)‏ مالك ‏(‏حاضر لواهب‏)‏ فضولي ‏(‏من ماله‏)‏ شيئاً كدار أو دابة ونحوهما ‏(‏ولم يغير ما رأى من حاله‏)‏ أي حال الواهب ولم ينكره بل هو عالم ساكت بلا عذر‏.‏

الحُكْمُ مَنْعُهُ القِيَامَ بِانْقِضَا *** مَجْلِسهِ إذْ صَمْتُهُ عَيْنُ الرِّضَا

‏(‏الحكم منعه القيام‏)‏ في نقض تلك الهبة وفسخها ‏(‏بانقضا مجلسه‏)‏ أي العقد ‏(‏إذ صمته‏)‏ وسكوته حتى انقضى المجلس ‏(‏عين الرضا‏)‏ بعقد الهبة في ماله وظاهره سواء وهبه الفضولي وهو يدعيه لنفسه أو يدعيه للمالك، وهو كذلك ولا شيء له عليه من قيمة الموهوب ولا غيرها‏.‏

وَالْعِتْقُ مُطْلقاً عَلى السَّوَاءِ *** معْ هِبَةٍ وَالْوَطْءِ للإمَاءِ

‏(‏والعتق‏)‏ أي عتق الفضولي لرقيق الغير والمالك حاضر ساكت بلا عذر ‏(‏مطلقاً‏)‏ ناجزاً كان أو لأجل أو تدبير أو كتابة ‏(‏على السواء مع هبة‏)‏ في اللزوم ‏(‏والوطء للإماء‏)‏ كذلك مسقط الحق المالك فيهن حيث كان الواطىء يدعي الملكية للموطوءة، وأن سيدها كان وهبها له أو اشتراها منه ونحو ذلك وسيدها حاضر ساكت بلا عذر ولم يغير ولم ينكر، ثم قام ينازع فلا حق له، وإن قصرت المدة وأثبت الملكية‏.‏ وأما إذا كان الواطىء لا يدعي شيئاً من ذلك فهو زانٍ وسكوت المالك لا يسقط الحد عنه، ومفهوم قوله‏:‏ حاضر إنه إذا لم يحضر مجلس عقد الهبة أو العتق أو الوطء ولكن بلغه ذلك فإن قام بفور علمه كاليوم واليومين فله الفسخ والإمضاء وإلا لزمه ذلك كما مر في البيع إلا أنه هنا لا شيء له، لأنه فوته بغير عوض‏.‏ قال ابن رشد في كتاب الاستحقاق من بيانه إثر ما مر عنه‏:‏ وأما إذا فوته أي الفضولي بالصدقة أو الهبة أو التدبير أو العتق فإن كان حاضراً فسكت حتى انقضى المجلس لم يكن له شيء، وإن لم يكن حاضراً فقام حين علم كان على حقه، وإن لم يقم إلا بعد العام ونحوه كان القول قول الحائز ولم يكن له هو شيء، وأما إذا فوته بالكتابة فيتخرج ذلك على الاختلاف فيها هل تحمل محمل البيع أو العتق‏.‏ وكذا إذا حاز الكل بالوطء فهي حيازة، وإن لم تطل المدة اه باختصار‏.‏ وقولي‏:‏ حين علم الخ‏.‏ يجري فيه من البحث ما تقدم عند قوله‏:‏ يبلغه ما عمله الخ‏.‏ وما ذكره الناظم في الوطء سيأتي له مثله في الحوز حيث قال‏:‏

والوطء للإماء باتفاق *** مع علمه حوز على الإطلاق

وما تقدم عن ابن رشد هو الذي اقتصر عليه أبو الحسن والبرزلي وغيرهما وهو الموافق للنظم دون ما لمطرف من أنه إذا كان حاضراً حتى انقضى المجلس وقام بحدثانه فإنه يرجع على حقه ويرد ما وقع فيه من بيع ونحوه الخ‏.‏ فإنه لا يوافق النظم ولا يتنزل عليه، بل قال الرجراجي في منهاجه على قول مطرف ما نصه‏:‏ لا يخلو إما أن يبادروا بالإنكار حين علمهم أو يتراخوا عنه فإن بادروا في الحال فلهم رد البيع والعتق والصدقة، وإن لم يبادروا بالإنكار في الحال إلا أنهم قاموا بالقرب فلهم الثمن في البيع والقيمة في الإيلاد والعتق بعد أن يحلفوا أنهم ما سوغوه ذلك ولا تركوه ليأخذوا الثمن والقيمة ويردون الهبة والصدقة والإصداق بعد أيمانهم أنهم ما تراخوا عن القيام بنفس العلم إلا للتدبير والتمري في إقامة الحجة وهذا تفسير ما وقع لمطرف في الواضحة فإن تراخوا عن الإنكار مدة طويلة يفهم منها إسقاط الحجة وتسليم الشيء لحائزه وتسويغ فعله فلا خلاف أعلمه في المذهب أن ذلك يدل على مالك الحائز اه‏.‏ فأين هذا من كلام الناظم حتى يشرح به‏؟‏

تنبيه‏:‏

إذا فوت الكل فلا إشكال أن حكمه ما مر للناظم، وإن فوت الأكثر فالأقل تابع له على قول ابن القاسم، وقيل‏:‏ لا يكون تبعاً وهو ظاهر سماع سحنون وإن فوت الأقل فقيل‏:‏ لا يكون تبعاً وإن فوت النصف وما قاربه فلا يكون أحدهما تبعاً للآخر بلا خلاف قاله ابن رشد، وهذا الذي ذكره إنما هو فيما إذا كان يدعيه لنفسه لأن الشيء الباقي بلا تفويت يبقى حينئذ للحائز البائع والواهب ولا تسمع دعوى القائم فيه، وأما إن كان يقر به للمالك، فلا يكون شيء من ذاك تبعاً بل الباقي يبقى للمالك والله أعلم‏.‏

وَالزَّوْجَةُ اسْتَفَادَ زَوْجٌ مَا لهَا *** وَسَكَتَتْ عَنْ طَلَبٍ لِمَا لهَا

‏(‏والزوجة استفاد زوج ما لها‏)‏ فاستغل حائطها أو حرث أرضها أو تولى كراء رباعها للغير وقبض أكريتها أو قبض لها ديوناً أو أثمان المبيعات ‏(‏وسكتت عن طلب لما‏)‏ استقر ‏(‏لها‏)‏ في ذلك كله أو في شيء منه فلم تغير ولم تنكر حتى مضى زمان، ثم أرادت أن تقوم عليه‏.‏

لها القِيَامُ بَعْدُ في المَنْصُوصِ *** وَالخُلْفُ في السُّكْنَى عَلَى الْخُصُوصِ

‏(‏لها القيام بعد‏)‏ سكوتها ولو طال ‏(‏في المنصوص‏)‏ لمالك من رواية أشهب وابن نافع قال بعضهم‏:‏ ولم يختلف قول مالك في ذلك قاله في كتاب الشروط من أنكحة المتيطية قال‏:‏ وكذلك إذا أنفقت عليه من مالها ثم طلبته بذلك أن ذلك لها وإن كان عديماً في حال النفقة بعد يمينها أنها لم تنفق عليه ولا تركته يأكل مالها إلا لترجع عليه اه‏.‏ وفي فصل المتعة أوائل النكاح من ابن سلمون ما نصه‏:‏ فإن استغل الزوج مال زوجته وازدرعه وانتفع به وهي تحته من غير متعة، ثم قامت تطلبه بالكراء كان ذلك لها، وإن ازدرعه بأمرها وأكله ولا يعلم هل كان عن طيب نفس منها أم لا‏.‏ ثم طلبته بالكراء كان لها ذلك بعد يمينها أنها لم تهب ذلك ولا خرجت عنه، وسئل بعضهم عن المرأة تعطي زوجها طعاماً أو ذهباً أو ثياباً عن طيب نفس منها إلى أعوام ثم يقع بينهما كلام فتطلب ذلك وتزعم أنه كان سلفاً فقال‏:‏ القول قولها مع يمينها ولها أخذ ذلك اه‏.‏

قلت‏:‏ ما في النظم ظاهر إذا لم يدع أنه كان يدفع لها غلتها وما قبضه من أكرية أراضيها وأثمان ما باعه لها وإلا فإن ادعى هو أو ورثته أن موروثهم دفع ذلك قبل موته فيجري على ما تقدم في قوله في الوكالة‏:‏

والزوج للزوجة كالموكل *** فيما من القبض لما باعت يلي

فراجع ذلك هناك، ومحله أيضاً إذا لم تكن بينهما مودة ورحمة وقامت بالقرب وإلاَّ فهو محمول على الصلة والمعروف فلا قيام لها، ففي أقضية البرزلي سئل ابن رشد عمن استغل ربع زوجته ثم قامت تطلب ما استغل لها من تركته‏؟‏ فأجاب‏:‏ إن علم أنه كان يستغل ذلك على سبيل الصلة والمعروف فلا شيء لها، وإن علم استغلاله لذلك ولم يعلم هل كان يصرف ذلك في منافعه أو منافعها‏؟‏ فالقول قولها مع يمينها فيما قرب من المدة أنه لم يدفع ذلك ويكون ذلك لها في ماله اه‏.‏ فأنت تراه قيد ذلك بما إذا لم يكن ذلك على وجه الصلة‏.‏ ومما إذا قامت بالقرب، وبمثله أجاب أبو القاسم عبد الرحمن التازغددي حسبما في الكراس الثالث من معاوضات المعيار قائلاً‏:‏ إن كان الزوج ممن يسطو عليها ويقهرها فتأخذ جميع ما أكل لها على هذه الصفة وإن كان بينهما من المودة والرحمة ما جرت العادة به بين الزوجين فيكون ما أكله من مالها وفوته بعلمها وعلى عينها ساقط عنه إلا أن يبيع بالثمن الكثير الذي له خطر وتدعي أنها لم تترك ذلك إلا على وجه الأمانة فتحلف على ذلك وتستحقه اه‏.‏ وهو صريح في أنه إذا كانت بينهما مودة لا شيء لها فتأمله مع ما مر عن ابن سلمون، وكل ما لا يطلب إلا عند الشنآن والخصام فهو محمول على الصلة كما في ظني أني وقفت عليه كذلك، ولم أذكر الآن محله، ثم بعد كتبي هذا وقفت عليه نصاً للخمي ونقلته في باب العارية، وانظر ما تقدم عن المعيار في آخر فصل ما تهديه الزوجة لزوجها بعد العقد ولا يخفى أن عادة البوادي أن ذلك للصلة والقضاء بما به العادة واجب كما مرّ في الثنيا، وعليه فما يقع بينهم من النزاع عند الشنآن في رعاية ماشية الزوجة فيطلبها الزوج بأجرة رعايته، وتطلبه هي بما أكل من لبنها وباعه من صوفها وكراء حرثه على بقرها لا يقضي لأحدهما على الآخر بشيء لأن ذلك كله كان على وجه الصلة على ما تقررت به عوائدهم وما يوجد من فتاوى المتأخرين من أنها تحاسبه بالغلة ويحاسبها هو بالرعاية ومن له فضل أخذه إنما هو إذا علم تسوره عليها وقهره لها ولم تعلم مودة بينهما كما ترى، ولا سيما وقد تقدم أن السكوت ليس بإذن ولا رضا إلا فيما علم بمستقر العادة أن أحداً لا يسكت عنه إلا برضاه والله أعلم‏.‏ ثم لا خصوصية للزوجة بهذا المعنى بل غيرها مما علم أنه للصلة كذلك وتذكر قول ‏(‏خ‏)‏ في النفقات‏:‏ إلا لصلة الخ‏.‏ وفي الاستحقاق من العلمي عن الونشريسي أن لورثة الزوجة طلب الزوج بما اغتله من مال زوجته وله استحلافهم إن ادعى عليهم إذنها بأكله بغير عوض وهي من دعوى يمين المعروف ومعروف المذهب توجيهها، وكذا يرجع على بعض الورثة إن استبد باغتلال موروثهم ما لم يكن سكوتهم عنه على وجه الهبة اه‏.‏

وفي المعيار إثر ما مر عنه بنحو الورقتين عن أبي عبد الله محمد بن عبد الكريم الأغصاوي أنه سئل عن رجل له ابن بالغ متزوج بائن عنه، فكان الابن يحرث أرضاً لوالده ويستغلها لنفسه بمحضر والده وعلمه، وربما حرثها ببقر والده ثم مات الأب والابن فقام وورثة الأب على ورثة الابن يطلبونهم بغلة الأرض المذكورة، ولا يدري بما استغلها الابن هل بإذن والده أم لا‏؟‏ فأجاب‏:‏ لا شيء لورثة الأب على ورثة الإبن من الغلة التي استغل في حياة أبيه اه‏.‏ وانظر شارح نظم العمل عند قوله‏:‏

وخدمة النساء في البوادي الخ‏.‏ ففيه أن المرأة لا أجرة لها على زوجها فيما جرت العادة بخدمتها من نسج وغزل ورعاية ونحو ذلك والله أعلم‏.‏ وانظر نوازل الغصب والتعدي من العلمي إن شئت، وانظر أيضاً ما يأتي في الإجارة عن العبدوسي‏.‏

‏(‏والخلف‏)‏ في استغلاله ‏(‏بالسكنى‏)‏ معها في دارها ‏(‏على الخصوص‏)‏ ففي كتاب العدة منها أن لها الكراء إن كان الزوج معسراً حين السكنى معها وإلاَّ فلا شيء عليه‏.‏ وفي كتاب كراء الدور منها لا كراء لها عليه، وإن كانت تسكن بالكراء إلا إن تبين له ذلك وعليه عول ‏(‏خ‏)‏ إذ قال‏:‏ وإن تزوج ذات بيت وإن بكراً فلا كراء إلا أن تبين الخ‏.‏ وهذا إذا كانت رشيدة وإلاَّ فلها الكراء، وظاهر القول بالسقوط الذي عول عليه ‏(‏خ‏)‏ أنه لا كراء حيث لم تبين ولو كانت العادة جارية بأن لا يسكن في دارها إلا بالكراء وهو ما عليه ابن لب كما في المعيار قائلاً‏:‏ لأن القائل بالسقوط أطلق وما فصل ولا قيد وفيما قاله شيء لقول القرافي‏:‏ الأحكام مبنية على العوائد تدور معها حيث دارت بإجماع‏.‏ انظر شرحنا للشامل، ومثل دارها دار أمها أو أبيها وأما دار أخيها أو عمها فإن طالت المدة فلا شيء لهما عليه، وإذا قصرت المدة حلفا أنهما إنما أسكناه بالأجر قاله اللخمي‏.‏

كَذَاكَ مَا اسْتَغَلَّهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ *** مُتِّعَ إنْ مَاتَ كَمثْلِ مَا سَكَنْ

‏(‏كذاك ما استغله‏)‏ الزوج ‏(‏من غير أن متع‏)‏ أي من غير أن تبيح له ذلك الاستغلال وتسقط رجوعها به عليه نصاً أو عادة وهي رشيدة فالحكم فيه ‏(‏إن مات‏)‏ الزوج فما من قوله ما استغله مبتدأ صلته ما بعده وخبره ‏(‏كمثل ما سكن‏)‏ وقوله‏.‏

فِيهِ خِلافٌ وَالَّذِي بِهِ الْعَمَلْ *** فِي المَوْتِ أَخْذُهَا كِرَاء مَا اسْتَغَلْ

‏(‏فيه خلاف‏)‏ مبتدأ وخبر‏.‏ وقوله‏:‏ كذاك حال منه أي ما استغله من غير تمتيع إن مات الزوج كائن كمثل ما سكن فيه خلاف حال كونه كالخلاف في السكنى، فعلى ما في المدونة في كتاب العدة لها ذلك، وعلى ما في كتاب كراء الدور لا شيء لها‏.‏ هكذا أجرى بعضهم الخلاف فيه كما في المتيطية، وحكاية الخلاف ههنا توجب جريانه في قوله لها القيام بعد في المنصوص إذ لا فرق بين ما هنا وما هناك إلا كون الزوج قد مات هنا وهناك لا زال حياً، وليست حياته موجبة اختصاصه بحكم لا يثبت له في موته لأن وارثه قائم مقامه فكأنه حي، فلو استغنى الناظم بما مر عما هنا لكفاه‏.‏ ‏(‏والذي به العمل في الموت أخذها كراء ما استغل‏)‏ وحاصله؛ أن قول مالك لم يختلف في رجوعها بما أكله من مالها كما مر عن المتيطية، لكن خرج الخلاف فيه من اختلاف قوله في السكنى كان حياً أو ميتاً، ويقيد هذا العمل بما تقدم عن ابن رشد وغيره والله أعلم‏.‏ ومفهوم قوله‏:‏ من غير أن متع أنها إن متعته بذلك لا رجوع لها وهو كذلك، إلا أن التمتيع إذا كان في عقد النكاح فإن النكاح فاسد كما مرّ‏.‏

فرع‏:‏ قال في الباب الخامس والعشرين من التبصرة‏:‏ إذا بنى الرجل في دار امرأته وأنفق في ذلك نفقة ثم قام يطلب ذلك وقالت هي‏:‏ إن النفقة كانت من مالي، فإن أقر أن البناء لها كان القول قولها مع يمينها على الأظهر من الأقوال، وإن قال‏:‏ إنما بنيت لنفسي بأمرها وبمالي فالقول قوله إن النفقة من ماله من غير خلاف اه‏.‏

وَحَاضِرٌ لِقَسْمِ مَتْرُوكٍ لَهُ *** عَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَكُنْ أَهْمَلَهُ

‏(‏وحاضر‏)‏ عالم بدينه ساكت بلا عذر ‏(‏لقسم‏)‏ مال ‏(‏متروك‏)‏ عن ميت ‏(‏له‏)‏ أي لذلك الحاضر ‏(‏عليه‏)‏ أي على الميت الذي ترك المال ‏(‏دين لم يكن أهمله‏)‏ أي أسقطه بوجه‏.‏

لا يُمْنَعُ الْقِيَامَ بَعْدَ أَنْ بَقِي *** لِلْقَسْم قَدْرُ دَيْنِهِ المُحَقَّقِ

‏(‏لا يمنع‏)‏ بالبناء للمفعول ‏(‏القيام‏)‏ بدينه ‏(‏بعد‏)‏ صدور ذلك القسم ‏(‏إن بقي للقسم‏)‏ أي لأجل القسم في المستقبل ‏(‏قدر دينه المحقق‏)‏ لأنه يقول‏:‏ إنما سكت لكون الباقي بلا قسم فيه وفاه بديني‏.‏

وَيَقْتَضِي مِنْ ذَاكَ حَقًّا مَلَكَهْ *** بَعْدَ الْيَمِينِ أَنَّهُ مَا تَرَكَهْ

‏(‏ويقتضي من ذاك‏)‏ الباقي بلا قسم ‏(‏حقاً‏)‏ أي ديناً ‏(‏ملكه‏)‏ وثبت له ‏(‏بعد اليمين‏)‏ يتعلق بيقتضي أي يقتضي حقه من ذلك الباقي بعد حلفه ‏(‏أنه ما تركه‏)‏ ولا أسقطه بسكوته حال القسم، ثم بعد هذه اليمين يحلف يمين القضاء فعليه يمينان‏.‏ الأولى لرفع احتمال أن يكون أسقط دينه بسكوته حال القسم، والثانية لرفع احتمال أن يكون اقتضى حقه من الميت في حياته أو أحاله به ونحو ذلك، ومفهوم إن بقي قدر ديته أنه إن بقي أقل فإنه لا يأخذ إلا ذلك الأقل بعد يمينه أيضاً وأنه إن لم يبق شيء فلا شيء له، وظاهره وسواء قسم ذلك الغرماء أو الورثة وهو كذلك ولا مفهوم لدين بل كذلك لو كانت له عنده وديعة ونحوها، أو كان شريكاً معه في دار ونحوها فقسمها الورثة أو الغرماء أو باعوها وهو حاضر ينظر فلا قيام له، بل ذكر في المدونة أن رب الدين إذا حضر تفليس الغريم فلم يقم بطل حقه، وإن لم يحضر القسمة قال فيها‏:‏ ومن كان من الغرماء حاضراً عالماً بتفليسه فلم يقم مع من قام فلا رجوع له على الغرماء، وذلك رضا منه ببقاء دينه في ذمة الغريم، ابن يونس، قال بعض الفقهاء‏:‏ اختلف ابن القاسم وغيره إذا كانوا حضوراً حال التفليس ولم يحضروا حال القسمة، فأما إن حضروا حال القسمة وسكتوا فلا رجوع لهم على الغرماء بلا خلاف، وقولي‏:‏ عالماً بدينه احترازاً مما إذا قال ما علمت بالدين إلا حين وجدت الوثيقة فإنه يحلف ويكون له القيام اتفاقاً فقد قال ابن حارث‏:‏ اتفقوا على أن من أخذ من رجل مالاً يجب له بقضاء أو بغير قضاء ثم ثبت الحقيقة فإنه يرد ما أخذه اه‏.‏ بل في ‏(‏ح‏)‏ أوائل الاستحقاق‏:‏ أن من اشترى شيئاً وهو يرى أن لا بينة له ثم وجد بينته فله القيام وأخذ الثمن من البائع، والقول قوله إنه إنما اشتراه لما ذكر اه‏.‏ قال ابن رحال‏:‏ وأحرى لو اشتراه وهو غير عالم أنه له اه‏.‏ وقولي‏:‏ بلا عذر احترازاً مما إذا كان له عذر كسلطان يتمنعون به أو لم يعرف شهوده أو كانوا غيباً أو لم يجد ذكر حقه إلا عند قيامه ونحو ذلك مما يعذر به فإنه يحلف ما كان تركه القيام إلا للوجه الذي ذكره، ثم يكون على حقه وإن طال زمانه قاله في التبصرة‏.‏ وقوله‏:‏ أو لم يجد ذكر حقه الخ‏.‏ نحوه لابن سلمون في فصل الإقرار وهو صريح في أنه لو قال‏:‏ كنت أعلم ديني ولكن كنت أنتظر الوثيقة وخفت إن قمت عجزني القاضي، أو قال‏:‏ لم أجد الوثيقة التي نقوم بها فلذلك سكت حين القسم، والآن وجدتها لكان ذلك من العذر الذي لا يبطل به حقه، وهو الذي رجحه الونشريسي في شرح ابن الحاجب، ونقله العلمي في الاستحقاق والغصب من نوازله، ورجحه أيضاً الرهوني في حاشيته فما في ‏(‏ح‏)‏ عن الجزولي والشيخ يوسف بن عمر من أن ذلك ليس بعذر لا يعول عليه كما يأتي ذلك إن شاء الله في فصل الحوز‏.‏

فإن قلت‏:‏ قد قال ‏(‏خ‏)‏ في باب الصلح‏:‏ لا إن علم بينة ولم يشهد الخ‏.‏ والجاري عليه أنه لا يعذر بقوله‏:‏ إنما لم أقم لعدم وجودي للوثيقة أو لكون الشهود غيباً لعدم إشهاده بذلك‏.‏

قلنا‏:‏ قد يفرق بينهما بأنه في الصلح وجد منه عقد فلا يصدق في ذلك مع عدم الإشهاد، وهذا إنما وجد منه سكوت وهو ليس برضا كما اقتصر عليه ابن رشد، وإنما الخلاف هل هو إذن أم لا‏؟‏ وأظهر القولين إنه ليس بإذن إلا فيما علم بمستقر العادة أن أحداً لا يسكت عنه إلا برضا كما في بيع الفضولي وهبته قاله ابن رشد أيضاً، ونقل ‏(‏ح‏)‏ بعضه في باب الإقرار فالساكت أضعف من العاقد للصلح والله أعلم‏.‏

تنبيهان‏:‏

الأول‏:‏ قال في نوازل الاستحقاق من المعيار‏:‏ سئل ابن الفخار عن إخوة ورثوا عن أبيهم أملاكاً فاعتمروها زماناً واقتسموها فيما بينهم، ولهم أخوات في بيوتهن ساكنات معهم في القرية أو في قرية بائنة بالقرب منهم، ثم يقوم الأخوات على الإخوة بعد القسمة ويحتج الإخوة عليهن بالقسمة ويدعين الجهل وأنهن لم يعلمن أن القسم يقطع حقوقهن‏.‏ فأجاب‏:‏ بأنهن يحلفن على ذلك ويأخذن حقوقهن اه‏.‏

قلت‏:‏ هذا مخالف لما مر أول الفصل من أن الساكت لا يعذر بجهله، وأن السكوت يقطع حقه، وما لابن الفخار كأنه اعتمد فيه أن من ادعى الجهل فيما يجهله أبناء جنسه صدق، ونحوه لأبي الحسن ونقله عنه في وصايا المعيار في بكر تصدقت بميراثها على إخوتها فتزوجت، واقتسم الأخوة ذلك وباعوا وبعد عشر سنين قامت زاعمة أنها إنما سكتت لجهلها بأن البكر المهملة لا تلزمها صدقتها فقال‏:‏ القول قولها لأن ما ادعت الجهل فيه مما يجهله العوام غالباً ولا يعرفه إلا أهل الفقه، وقاعدتهم أن من ادعى الجهل فيما يجهله أبناء جنسه غالباً فالقول قوله في جهله والنصوص في ذلك كثيرة اه‏.‏ ومثله في البرزلي في مواضع من ديوانه، فانظره بعد الكلام على بعث الحكمين بأوراق، ولكن لما نقل في المعيار ما مر عن أبي الحسن قال منكتاً عليه ما نصه، قال ابن رشد‏:‏ الأصل في هذا أن كل ما يتعلق به حق الغير لا يعذر الجاهل فيه بجهله، وما لا يتعلق به حق الغير فإن كان مما يسعه ترك تعلمه عذر بجهله وإن كان مما لا يسعه ترك تعلمه لم يعذر بجهله، فهذه جملة كافية يرد إليها ما شذ عنها اه‏.‏ قال‏:‏ فتأمله مع ضابط الشيخ يعني أبا الحسن اه‏.‏ وقد أشار في المنهج إلى هذه القاعدة وصدر بما لابن رشد فانظره وقد قال المقري في قواعده‏:‏ الجهل بالسبب عذر كتمكين المعتقة جاهلة بالعتق وبالحكم قولان للمالكية كتمكينها جاهلة أن لها الخيار، والصحيح أن الفرق بين ما لا يخفى غالباً كالزنا والسرقة وما قد يخفى مثل تمكينها بأن لها الخيار اه‏.‏ وقد جرى على هذا التصحيح ‏(‏خ‏)‏ في قوله في العيوب‏:‏ وخير مشتر ظنه غيرهما، وبالجملة فالجهل بالسبب عذر اتفاقاً، والجهل بالحكم غير مؤثر على المشهور كتمكينها جاهلة أن لها الخيار وكإسقاط الشفعة جاهلاً بالبيع عالماً وجوبها، والصحيح الفرق بين ما لا يخفى كجهل الحكم في الزنا والشرب والسرقة وبين ما قد يخفى كجهل المعتقة أن لها الخيار، ولذلك علل ابن العطار المشهور بما إذا اشتهر ثبوت الخيار لها بحيث لا يخفى على أمة وأما إن أمكن جهلها فلا اه‏.‏ قال في ضيح‏:‏ الأقرب بأن قول ابن العطار تقييد وظاهر ابن الحاجب وغيره أنه مقابل اه‏.‏ وقد جرى على هذا التقييد والتصحيح شراح المتن عند قوله في الشهادات‏:‏ وليجب عن القصاص العبد، وعن الأرش السيد، وعند قوله‏:‏ وليبين الحاكم حكمه‏.‏ وجرى عليه ‏(‏ح‏)‏ في الوكالة حيث نقل عن الرعيني أن العامي إذا أنكر أصل المعاملة لا يضره، وأهل التوثيق قاطبة على خلافة وقد أطلقوا وما فصلوا ولا قيدوا، وكذا ما ذكره ابن عبد السلام من أن الشاهد إذا شهد وحلف لا تسقط شهادته وهو خلاف إطلاق ‏(‏خ‏)‏ وغيره‏.‏ انظر العمري من شرح الشامل، وانظر ما ذكره شراح المتن في الراهن لا يقضى عليه بالتعجيل إذا وهب الرهن ظاناً أنه لا يقضى عليه بفكه عند قوله في الهبة ورهناً لم يقبض، ومنها ما قالوه فيمن اشترى شقصاً جاهلاً بأن شريك بائعه متحد مدخله مع بائعه فهو عيب يرد به كما نقلناه في الصفقة من اللامية إلى غير ذلك مما يدخل تحت القاعدة، وقد وقع النزاع في النازلة وقت ولايتنا خطة القضاء بفاس، فكتبت في النازلة ما يعلم بالوقوف عليه في نوازل الحجر من نوازلنا والله أعلم‏.‏

الثاني‏:‏ كثيراً ما يقع في البوادي يقسم الإخوة ونحوهم وتعلم الأخت ونحوها أن حظها خرج مع شقيقها مثلاً وهي ساكتة ثم يبيع الأخ الكل أو البعض، ثم تقوم الأخت وتريد نقض القسمة لأنها لم ترض فلا كلام لها على ما مر عن ضيح وغيره، ولها ذلك على ما لابن الفخار إن جهلت أن السكوت يقطع حقها‏.‏